ذكرتني تقارير المجلس الأعلى للحسابات بلوائح الريع التي نشرها الوزير عزيز الرّباح قبل سنوات والتي وقفت عند ذلك الحدّ، حيث أخبر الوزير المغاربة بما يعرفونه سلفا، وهو وجود الريع ووجود المستفيدين منه، لكنه لم يقم بأي شيء يمكن من إنهاء الرّيع من أجل الإسهام في تمكين عجلة الاقتصاد الوطني من العمل بطريقة سليمة، حيث لا يتمتع بأية سلطات تسمح له بذلك، ولم يكن الأمر سوى حملة دعاية لتسويق وجه « الإخوان » بعد الصّدمة التي أعقبت إعلان رئيسهم أن « عفا الله عما سلف ».
يخشى المغاربة اليوم أن تلقى تقارير السيد « جطو » نفس المصير: وصف الفساد العام ثم طيّ الصفحة.
قد يقول قائل إن ثمة في الأفق حملة تطهير ضدّ المفسدين في الدولة وسُراق المال العام، لكن ينبغي التأكيد على أمرين:
أولا أن تلك الحملة إن وقعت بالفعل ولم تطل الرؤوس الكبيرة، والمحميين وذوي النفوذ والسلطة والمقربين، فلن يكون لها أي أثر على اقتصاد بلدنا ولن تحقق الحكامة المطلوبة. وسوف تضيع بالتالي كل الجهود التي بذلها مجلس الحسابات وسيكتسي الأمر طابع تصفية الحسابات مع بعض الأطراف دون إرادة حقيقية في الإصلاح، حيث كما هو معلوم، عندما لا يتم القضاء على المفسدين الكبار، أي منبع الفساد الأكبر في الدولة، فإنهم يستطيعون في وقت قياسي خلق جيل جديد من المفسدين الصغار الذين ينتشرون في كل مكان.
إن المغاربة يؤدون ضرائبهم للدولة (باستثناء أرباب السلطان الذين يُعفون أنفسهم من ذلك) لكنهم لا يعرفون أين تذهب تلك الموارد الضريبية ولا ما يتم عمله بها، وإذا كان مجلس الحسابات ـ في صحوته الأخيرة بعد طول غياب ـ يساهم بشكل وافر في معرفة طريقة عمل بعض المؤسسات ومكامن الخلل في عملها وأضرُب التقصير التي تعتور أداءها، إلا أن تقاريره حتى الآن لم تخلق الدينامية المؤسساتية المطلوبة من أجل الإصلاح، وإن كانت قد خلقت تفاعلا واسعا من قبل المجتمع.
لقد كان من أكبر مظاهر ضعف العمل المؤسساتي بالمغرب هو غياب الرقابة المشدّدة على المال العام، ما شجع على انتشار الفساد بشكل كبير، ولعل من مظاهر الأزمة الخانقة أن هذا الموضوع أصبح متداولا بكثرة في المجتمع دون وجود أي إصلاح، ما يعني عمليا بأن النظام السياسي يعمل على تخفيف الضغط النفسي بترك الناس يعبرون عن مواقفهم المتعلقة بالفساد الأكبر لكن بدون أن يكون لذلك أية نتيجة إيجابية على واقعهم، وهكذا صار الفارق بين مرحلة الملك الحسن الثاني والمرحلة الحالية هو أن في عهد الملك الراحل كان التعبير محظورا ومعاقبا عليه، بينما اليوم صار التعبير والتداول الاجتماعي لموضوع الفساد العام من مظاهر وآليات ضبط المجتمع وضمان الاستقرار مع استمرار الفساد على حاله.
ثانيا يركز الجمهور المغربي المتتبع لهذا الموضوع على ضرورة متابعة المسؤولين عن المؤسسات التي طالتها تقارير مجلس الحسابات ومعاقبتهم ، لكنهم ينسون بأن المعاقبة سواء كانت جنائية أو سياسية ليست كافية لأنها تتعلق بما مضى دون أن تضمن حُسن سير المؤسسات مستقبلا بعد هذه المحاسبة، وهذا هو جوهر الموضوع، لأنه يتعلق بشكل كبير بطبيعة النسق السياسي المغربي وبمدى توفر إرادة سياسية للإصلاح الحقيقي، وبأسس ذلك الإصلاح ومرتكزاته.
فإذا كان لمجلس الحسابات اختصاصات قضائية تسمح له بالمتابعة والتأديب، وكان لرئيس البرلمان ورئيس الحكومة صلاحيات تحريك المتابعات كذلك، إلا أن ذلك مرهون كله بوجود إشارة من أعلى هرم السلطة، حيث ليست لجميع هؤلاء سلطة القرار الحقيقي في ذلك، بالنظر إلى طريقة اشتغال المؤسسات في بلدنا، ما يعني في النهاية أن الموضوع كله قد لا يسفر سوى عن مناوشات لن تغير من طبيعة النسق شيئا، وهذا سيجعلنا نخضع من جديد لفترة تهدئة وتخفيض التوتر الشعبي، وتوجيه الرأي العام وإلهائه، وتمديد فترة السلم الاجتماعي بدون معالجة أي من المشاكل الكبرى العالقة.
**إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي “مغربية بريس ” و إنما تعبر عن رأي صاحبها.