*الخطوات الملكية.. شجاعة حاسمة في رسم علاقة الدولة بالمجتمع

مغربية بريس

متابعة خاصة……..*فيصل مرجاني*

 

لقد دأبت المجتمعات التقليدية على النظر إلى المرأة باعتبارها عنصرًا هامشيًا في معادلة التنمية الاجتماعية والاقتصادية، مما جعلها في كثير من الأحيان أسيرة الصراعات الطابوية والقوانين المجحفة. إلا أن المؤسسة الملكية في المغرب اختارت بجرأة واستشراف فك قيود هذا الإرث الثقيل، متصدرة مشروعًا إصلاحيًا شاملاً يُعيد تشكيل الواقع القانوني للمرأة والأسرة في أفق مدني وحداثي غير مسبوق.

يشكل النهج الذي تبنته المؤسسة الملكية منعطفًا جوهريًا في مسار الإصلاحات التشريعية، حيث لم تكتفِ بالتعديلات السطحية أو الحلول التوافقية الهشة، بل واجهت بجرأة النظم التقليدية التي لطالما حجّمت دور المرأة داخل الأسرة والمجتمع. ومن خلال إعادة النظر في مدونة الأسرة، تسعى المؤسسة إلى تحرير المرأة من قوالب نمطية كانت تحول دون ممارسة حقوقها كاملة، سواء في قضايا الطلاق، الحضانة، أو المساواة في الإرث، مع الحفاظ على التوازن الذي يراعي الدين والثوابت الوطنية دون الانزلاق نحو الجمود التيوقراطي. هذه الخطوات الجريئة لم تكن مجرد مبادرات تشريعية معزولة، بل جاءت في إطار رؤية استراتيجية شاملة تُعيد تعريف العلاقة بين القانون والمرأة، مع التأكيد على أن تحقيق العدالة الاجتماعية لا يمكن أن يتحقق في ظل القوانين التقليدية التي تكرس التمييز أو الإقصاء. إن المناصفة لا يمكن أن تكون مجرد شعار سياسي يُرفع لتحقيق مكاسب آنية، بل يجب أن تُترجم إلى إجراءات ملموسة تضع المرأة في صميم عملية اتخاذ القرار.

ومن هنا، جاء التركيز على بناء منظومة قانونية واجتماعية تستند إلى مبدأ المساواة الجوهرية، التي تُعلي من شأن الكفاءة والجدارة بعيدًا عن اعتبارات النوع الاجتماعي. حيث تتجلى هذه الرؤية في تعزيز حضور المرأة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية، بدءًا من تفعيل آليات التمييز الإيجابي لضمان تمثيل عادل في البرلمان والمجالس المنتخبة، وصولاً إلى فتح المجال أمامها لتولي مناصب قيادية عليا في القطاعين العام والخاص. إن التعامل مع حقوق المرأة كجزء لا يتجزأ من المشروع الوطني للتحديث يُعدُّ من أبرز ملامح الجرأة الملكية في هذا المجال. فهذه الحقوق ليست مجرد امتيازات تُمنح في سياق مساومات سياسية أو اجتماعية، بل هي واجب وطني ومسؤولية تقع على عاتق الجميع، من مؤسسات الدولة إلى المجتمع المدني. تأتي هذه الرؤية من إدراك عميق بأن تمكين المرأة هو شرط أساسي لتحقيق التنمية المستدامة، وأن أي مشروع تحديثي حقيقي لا يمكن أن ينجح دون إشراكها بشكل كامل في صياغة مستقبل البلاد. ومن هذا المنطلق، لا تُعامل قضايا المرأة باعتبارها مسألة ثانوية أو ترفًا تشريعيًا، بل كأولوية استراتيجية تُحركها براغماتية واعية تستشرف المستقبل. تمثل هذه الإصلاحات قطيعة واضحة مع النزعات التيوقراطية التي ظلت تُقيد المساطر القانونية بعقليات تقليدية لا تستجيب لمتطلبات العصر. وبدلاً من الاستسلام للخطابات المحافظة التي تعتبر المرأة “تابعًا”، جاءت هذه الإصلاحات لتُعيد صياغة العلاقة بين القانون والمرأة في إطار مدني حديث يُعلي من قيم المواطنة والمساواة. ففي هذا السياق، لم يكن الهدف فقط تحسين وضعية المرأة، بل أيضًا تعزيز الطابع المدني للدولة المغربية، بما يجعلها نموذجًا يُحتذى في المنطقة. فالقوانين الجديدة لم تكتفِ بحل الإشكالات الظاهرة، بل وضعت أسسًا لتغيير عميق في العقليات والبنى الاجتماعية، مما يُهيئ لمجتمع أكثر انفتاحًا وعدالة.


إن هذا المشروع لا يهدف فقط إلى تحقيق إنصاف مرحلي للمرأة، بل إلى إرساء نموذج وطني متقدم للمناصفة الحقيقية. هذا النموذج يقوم على توازن دقيق بين الحقوق والواجبات، بين الفرد والمجتمع، وبين الجنسين، مع تعزيز التكامل بدلاً من التنافس، في مختلف المجالات القانونية والاجتماعية والاقتصادية. فمن خلال هذا التوجه، يُرسي المغرب معادلة جديدة تتجاوز الأطر التقليدية التي سادت لعقود، لتؤسس لمرحلة تُصبح فيها المرأة شريكًا متساويًا في بناء السياسات العامة ورسم ملامح المستقبل.

تمثل الجرأة الملكية في التعامل مع قضايا المرأة والأسرة نموذجًا إصلاحيًا متفردًا ينبع من إدراك عميق بأن التقدم الحقيقي لأي مجتمع يبدأ من إصلاح جذري في بنيته القانونية والاجتماعية. هذه الرؤية، التي تزاوج بين الأصالة والحداثة، تُثبت أن المغرب قادر على قيادة تحول نوعي يُعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس من العدالة والمساواة والحداثة.

وعليه، فإن هذه المقاربة، لا تُحرر المرأة فقط من قيودها التقليدية، بل تحرر المجتمع بأسره من ثقل الموروث الذي أعاق تطوره، ليخطو بخطى واثقة وبثبات واضح نحو مستقبل أكثر إشراقًا وإنصافًا.

اعجبك المقال؟ يمكنك مشاركته من خلال منصتك المفضلة
اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد