العربي الساسي: النجم الذي لم يأفل، والإبداع الذي لا يموت

مغربية بريس

منابعة خاصة …….. معروف مطرب

 

هناك أسماء لا تُنسى، تظل محفورة في ذاكرة الزمن كالنقوش على الحجر، لا تمحوها الأيام ولا تغيبها العصور. أسماء لا تبهت بريقها مهما مرّت السنون، بل يزداد توهجها، لأنها ليست مجرد أسماء، بل رموزٌ للإبداع والعطاء. ومن بين هذه الأسماء، يتلألأ في سماء الفن المغربي اسمٌ من ذهب، اسمٌ لا يُذكر إلا مقرونًا بالحرفية العالية، والتفاني النادر، والموهبة المتوهجة “العربي الساسي”.

إنه الممثل الذي لم يكن يؤدي أدواره، بل كان يعيشها، يسكب روحه في تفاصيلها، ينفخ فيها من حياته، حتى تكاد تتنفس بين أيدينا. إنه الفنان الذي لم يكن مجرد شخص يظهر على الشاشة، بل كان شعورًا يتغلغل في النفوس، ويجعل المشاهد ينسى أنه أمام تمثيل، ليؤمن بأنه أمام حقيقة تتجسد أمامه.

البداية: حين يولد الإبداع من قلب الحياة

وُلد العربي الساسي في 1946، في حي ديور صنياك بمدينة القنيطرة، نشأ بين أزقتها، واختبر في شوارعها معنى الحياة بحلوها ومرّها، بضيائها وظلالها. لم يكن طفلًا عاديًا، فقد كان يحمل بين جنباته موهبةً تبحث عن منفذ، وشغفًا يتقد كجمرة تحت الرماد. التحق بثانوية التقدم الحرة، لكن قلبه لم يكن في دفاتر الدراسة، بل في العوالم السحرية التي يخلقها الفن، حيث يمكن للإنسان أن يكون أكثر من مجرد شخصٍ عادي، حيث يمكنه أن يكون ألف شخصية، ويحمل ألف قصة، ويعيش ألف حياة.

هكذا، بدأ العربي الساسي رحلته في عالم التمثيل، بخطوات متواضعة، بأدوار صغيرة، لكن بروح عظيمة، وبإرادة لا تلين. كان يعرف أن الفن الحقيقي لا يُقاس بحجم الدور، بل بما يتركه في القلوب، وما يرسّخه في الوجدان. وكما قال الفيلسوف الصيني لاو تسوي: “رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة”. وقد خطا العربي الساسي خطوته الأولى بثبات، حتى صنع لنفسه مكانةً لا ينافسه فيها أحد.

وجع التراب … حين يكتب الفن الخلود:

في حياة كل فنان لحظة فاصلة، عملٌ يتحول إلى بصمة خالدة، دورٌ يصبح علامة فارقة، لحظة يُدرك فيها المشاهد أنه أمام شيء يتجاوز التمثيل، إلى الحقيقة المطلقة. وبالنسبة للعربي الساسي، كان هذا العمل هو “وجع التراب”.

في هذا المسلسل، لم يكن مجرد ممثل، بل كان كاتبًا يخطُّ بحضوره سطور الألم، فنانًا يرسم بمشاعره لوحات من الدموع والمعاناة. لم يكن يؤدي دورًا، بل كان يذوب فيه، يتقمصه حتى النخاع، حتى أصبح من المستحيل الفصل بين الشخصية والإنسان. وكما قال الأديب الروسي أنطون تشيخوف: “الفن ليس تصويرًا للحياة، بل هو خلق حياة جديدة.” وهذا بالضبط ما فعله العربي الساسي، فقد خلق حياةً جديدة على الشاشة، حياةً أصبحت جزءًا من ذاكرة المشاهد المغربي، لا تُنسى ولا تُمحى.

أدوار صنعت التاريخ … وأعمال لا تغيب:

لكن “وجع التراب” لم يكن إلا قمة جبل الجليد، فقد قدم العربي الساسي عبر مسيرته أعمالًا ستظل حاضرة في ذاكرة الدراما المغربية، منها:

– “الطريق المجهول” حيث قادنا بتمثيله العميق إلى متاهات المصير الغامض، وجعلنا نتساءل: هل نحن من نصنع طريقنا، أم أن الطريق هو من يصنعنا؟

– “من دار لدار” حيث جسّد بواقعية مذهلة قصص البيوت المغربية، وأسرارها، وأحلامها الصغيرة التي تنبض بالحياة.
– “الأخطبوط” حيث قدّم أداءً آسِرًا كشف لنا وجهًا جديدًا للصراعات الاجتماعية، بأسلوبٍ مليء بالإثارة والتشويق.
– “السراب” حيث جعلنا نؤمن أن الحياة قد تكون أحيانًا مجرد وهمٍ نطارده، وظلٍّ نبحث عنه دون أن ندرك حقيقته.

كل عمل من هذه الأعمال لم يكن مجرد مسلسل، بل كان مرآةً تعكس الحياة، ونوافذ مفتوحة على عوالم إنسانية عميقة، وحكايات تُروى بلغة المشاعر الصادقة.

الوداع … لكنه ليس النهاية:

في 14 يونيو 2017، توقّف نبض العربي الساسي، لكنه لم يتوقف عن العيش بيننا. رحل جسده، لكن روحه ما زالت تسكن أعماله، صوته ما زال يتردد في المشاهد التي أداها، نظرته ما زالت تحكي القصص التي جسّدها، إحساسه ما زال يلامس القلوب التي أحبته.
وكما قال الكاتب الفرنسي ألبير كامو: “الموت ليس نهاية، بل امتدادٌ آخر للحياة، حيث يبقى الإنسان حيًا في ذاكرة من أحبوه.”

إرث خالد وروح لا تموت:

اليوم، عندما نعيد مشاهدة أعماله، عندما نسمع صوته، عندما نرى تلك النظرة المليئة بالإحساس، ندرك أننا أمام فنان لم يكن مجرد نجم عابر، بل كان قمرًا أضاء سماء الفن المغربي، ولا يزال ضوؤه يشع رغم الغياب.

لقد علّمنا العربي الساسي أن الفن ليس مجرد مهنة، بل رسالة، مسؤولية، حبٌّ خالصٌ للحياة، وإيمانٌ بأن المشاعر الحقيقية لا تزول. وكما قال الكاتب المسرحي الإنجليزي ويليام شكسبير: “الناس يرحلون، لكن أعمالهم تبقى، كأصداءٍ لا تفنى في ذاكرة الزمن.”

رحمك الله أيها الفنان العظيم، وألهم الأجيال القادمة أن تسير على خطاك، أن تؤمن كما آمنت، أن تُخلص كما أخلصت، أن تعطي كما أعطيت.

وداعًا، أيها النجم الذي لا يأفل … ومرحبا بك في ذاكرة الخلود.

اعجبك المقال؟ يمكنك مشاركته من خلال منصتك المفضلة
اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد