القلب المنكسر: حين يُولد الإنسان ليعيش الألم

مغربية بريس 

متابعة خاصة ………. معروف مطرب

 

كان عليَّ أن أتعلم مبكرًا أن الحياة ليست حكاية خرافية، وأنه لا وجود لنهايات سعيدة لمن ولدوا في الظل، لأولئك الذين لم يحظوا منذ صرختهم الأولى سوى بصمتٍ مطبقٍ وعيونٍ ترمقهم بلا اهتمام. لم أُولَد في بيتٍ تغمره الضحكات، لم يكن هناك أبٌ يحملني بيديه ويرفعني عاليًا، لم يكن هناك دفء العائلة الذي يتغنّى به الناس في مجالسهم. كنتُ مجرد طفلٍ أُلقي به إلى هذا العالم، لا شيء يحميه سوى امرأةٍ تحمل من الحياة جراحها، ومن القدر نصيبها الموجع. كما قال الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي: “الحزنُ يجبرُ الإنسان على أن يصبح فيلسوفًا، لكن الجوعَ يجبره على أن يكون وحشًا.”

ما أتذكره عن طفولتي ليس أعياد الميلاد ولا الهدايا الملوّنة، بل يدَ أمي المرهقة وهي تمسح على رأسي في آخر الليل، وهمساتها المتعبة التي كانت تتحدث إلى الله، لا إلى البشر. كنتُ أفهم أنها تعاني، كنتُ أرى الألم في عينيها، ذلك الألم الذي لا تحتاج الكلماتُ إلى شرحه. لم تكن تشكو، لم تكن تبكي أمامي، لكنها كانت تحرق عمرها أمامي ببطء، كما تحترق شمعةٌ في غرفةٍ باردة.

لقد كنتُ وحيدًا، ليس بالمعنى الحرفي، بل بما هو أسوأ: كنتُ وحيدًا رغم أنني كنتُ محاطًا بالبشر. كنتُ أجلس بينهم، أراهم يتحدثون، يضحكون، يتشاجرون، لكنني كنتُ أشعر بأنني منفصلٌ عنهم، كما لو أنني من عالمٍ آخر. لم أكن طفلاً يركض نحو أبيه حين يعود إلى البيت، لأن أبي لم يكن هناك أصلاً. لم أكن أحمل قصصي لأرويها لرجلٍ يجلس بجانبي في المساء، لأن مقعد الأب كان فارغًا دائمًا. إن أصعب شعورٍ يمكن أن يعيشه الإنسان هو أن يكون بلا أحد، أن يمشي بين الناس وهو يعرف أن لا أحد سيمسك بيده إن هوى.”

لكن لم يكن الألم في الغياب فقط، بل في الحضور الكاذب، في أن يكون لك أبٌ في الأوراق، لكنك تعرف جيدًا أنه لا يعني لك شيئًا، وأنك لا تعني له شيئًا. كنتُ أذهب إليه أحيانًا، أقف أمامه كطفلٍ يريد أن يشعر ولو للحظة أن له أبًا، لكنه كان يكتفي بالنظر إليّ بلا مبالاة، بكلماتٍ باردة لا تحمل دفئًا ولا حبًّا. لم يكن يراني، لم يكن يسمعني، لم يكن يعرف ماذا أحبُّ أو ما أخافه. كنتُ فقط كائنًا غريبًا، يقتحم عزلته للحظاتٍ ثم يختفي. في كل مرة كنتُ أعود منه، كنتُ أشعر بأنني أكره نفسي أكثر، بأنني بلا قيمة، بأنني لا أستحق حتى أن ينظر إليَّ. إن أقسى ما يمكن أن يفعله إنسانٌ بآخر ليس أن يكرهه، بل أن يتجاهله تمامًا، أن يجعله يشعر كأنه لا شيء.”

لكنني لم أكن بلا قيمة. كان هناك شخصٌ واحدٌ يثبت لي هذا كل يوم، شخصٌ واحدٌ جعلني أؤمن بأنني لستُ مجرد خطأٍ عابرٍ في هذه الحياة، شخصٌ واحدٌ كان يحمل همي كأنه همه. كانت أمي، تلك المرأة التي لم تنحنِ رغم كل الرياح، التي لم تستسلم حتى وهي ترى الحياة تُسرق منها قطعةً قطعة.

أتذكر كيف كانت تصحو قبل الفجر، كيف كانت تخرج بحثًا عن عملٍ مؤقت، كيف كانت تعود في المساء متعبةً لكنها تبتسم لي، وكأن ابتسامتها قادرةٌ على إخفاء الجروح التي كانت تنزف في داخلها. لم تكن تحتاج إلى كلماتٍ لتخبرني أنها تحبني، لم تكن تحتاج إلى وعودٍ زائفة. كانت فقط هناك، كانت معي، كانت تمسك بي حين يوشك كل شيءٍ على الانهيار. فالحب ليس كلماتٍ تُقال، بل يدٌ تمتد حين يحتاجها الإنسان، عينٌ تسهر حين يغرق العالم في النوم، قلبٌ يتألم بصمتٍ حتى لا يُثقل على من يحبهم.”

كبرتُ وأنا أتعلم من أمي دروسًا لم تعلّمني إياها المدارس. تعلّمتُ أن القوة ليست في الجسد، بل في القلب الذي لا ينكسر رغم كل شيء. تعلّمتُ أن الحب ليس بالضرورة هديةً تأتيك بسهولة، لكنه شيءٌ تصنعه بنفسك، حتى لو لم يكن هناك من يمنحك إياه. تعلّمتُ أن الحياة ليست عادلة، لكن هذا لا يعني أن أستسلم لها.

أنا اليوم لستُ ذلك الطفل الذي كان يجلس على العتبات منتظرًا أبًا لن يأتي. لم أعد أنتظر أحدًا، لم أعد أبحث عن دفءٍ في الأماكن الخطأ. لم يعد يؤلمني الغياب كما كان، لم يعد يحزنني أنني كبرتُ بلا سندٍ سوى امرأةٍ واحدة. على العكس، أشعر بأنني كنتُ محظوظًا، لأن أمي وحدها كانت تكفيني، لأن حبّها وحده كان كافيًا ليصنع مني رجلًا يعرف معنى التضحية، يعرف معنى القوة، يعرف معنى الحب الحقيقي. كما قال الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي: “هناك أناسٌ يأتون إلى هذا العالم بلا امتيازات، بلا ثروات، بلا حماية، لكنهم يخرجون منه وهم أقوى من كل الذين وُلدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب.”

أنا معروف مطرب، ابن امرأةٍ لم تستسلم، ابن امرأةٍ لم تهبني كل شيءٍ في الحياة، لكنها وهبتني أهم شيءٍ فيها: ذاتها. لم أكن بحاجةٍ إلى أبٍ يعترف بي، لأنني عرفتُ منذ صغري أنني لستُ بحاجةٍ إلى اعتراف أحد، لأنني أثبتُ نفسي رغم كل شيء. لم أكن بحاجةٍ إلى حياةٍ سهلة، لأنني كنتُ أقوى من أن أحتاج إليها. حقيقة أن الحياة لم تكن عادلة، لكنها لم تنتصر عليّ.

 

اعجبك المقال؟ يمكنك مشاركته من خلال منصتك المفضلة
اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد