مغربية بريس
متابعة ……..قسم الأخبار
إذا أردنا أن نكتب عن مدرسة عبد الكريم الخطابي في الساكنية، فلا نبدأ بالكلمات الجافة أو الأرقام التي تقيس المسافات. إنها مدرسة لا يمكن أن تقاس بحروف أو أرقام، بل بكثير من العواطف والمشاعر التي لا يمكن للزمان أن يطويها، وبذكريات قديمة كانت دائمًا تقتحم أيامنا. كان كل يوم فيها كقصيدة تُكتَب من جديد، وكانت كل لحظة تحكي حكاية عن حب الوطن، عن الانتماء، وعن التربية التي لا تُكتَسَب في فصول الكتب فقط، بل في التجارب الحية التي عشناها بقلوبنا.
تذكرتُ تلك الأيام، كيف كانت المدرسة في أعيننا أكثر من مجرد مكان يتلقّى فيه التلاميذ التعليم. كانت مدرسة عبد الكريم الخطابي هي أول ما رأينا فيه الحياة، هي أول حب نعيشه، هي المدرسة التي علمتنا أن الحلم ليس مجرد أمل غائم، بل هو بذرة تُزرع في قلب الطفل في تلك الصفوف الصغيرة، ليكبر وينمو حتى يصبح شجرةً عميقة الجذور في أعماق الوطن.
التربية التي تُحيي القلوب:
لم يكن هناك من معلم في تلك المدرسة ينقل لنا مجرد معلومات جامدة. كل معلمة، كل معلم، كانوا أكثر من مجرد مدرسين، كانوا قلوبًا تُضَخُّ فينا الحياة. في تلك الأيام، كنت أرى معلمتي في الصباح الباكر، عيونها مليئة بالشغف، كلماتها تشرق كأشعة الشمس الأولى، تُحدثنا عن القيم التي يجب أن نحتفظ بها في حياتنا، عن الصدق، عن الأمانة، عن احترام الآخر، عن العطاء دون انتظار مقابل. وكأنهم كانوا يدربوننا على أن نكون مواطنين، ليس فقط بأجسادنا، ولكن بكل ما فينا من مشاعر وأحلام. كانوا يعلموننا أن الطريق إلى حب الوطن لا يمر عبر كلمات تُقال في المناسبات، بل عبر سلوك يومي نعيشه في قلب المدرسة، وفي خارجها، بأن نحب وطننا بكل ما نملك، وأن نلتزم بالواجبات التي تفرضها علينا هذه الأرض التي نعيش عليها.
المواطنة: أكثر من مجرد كلمات:
في كل يوم كان هناك دروس أخرى تأخذنا إلى عمق وطننا، ليس من خلال الكتب فقط، بل من خلال روح العمل الجماعي، من خلال إحياء معنى المواطنة الذي لا يرتبط فقط بالشعارات الوطنية، بل يتجسد في العمل الصادق. وكنت في تلك الأيام، أردد النشيد الوطني في فناء المدرسة، وأشعر أن كلمات “الله، الوطن، الملك” تتغلغل في عروقي وتنتقل إلى أعماق قلبي، وكأنها تعبير عن حالة قلبية لا تعرف الحدود. لم يكن النشيد الوطني مجرد كلمات تُقال، بل كان إيقاعًا يعلو في صدورنا، يحفز فينا الرغبة في فعل شيء ما لهذا الوطن، في تقديم شيء يعكس حبنا لهذا المكان الذي احتوانا.
وقد علمونا السادة المعلمين أن المواطنة ليست أبدًا مجرد بطاقة أو هوية، بل هي التزام داخلي عميق. كانت المدرسة تعلمنا أن نكون فاعلين في مجتمعنا، أن نتصرف بنضج ووعي، وأن نحرص على أن نكون صادقين في أفعالنا وتوجهاتنا. لم تكن تلك فقط مجرد دروس نأخذها، بل كانت بمثابة تشييد لمستقبلنا، لبناء شخصيات قادرة على العطاء، على التضحية، على العمل بجد من أجل الخير العام.
في تلك الزوايا، لم يكن هناك وقت للنسيان:
ومع ذلك، ما يميز مدرسة عبد الكريم الخطابي ليس فقط المنهج الدراسي الذي تلقيناه، بل أيضًا تلك اللحظات الصغيرة التي عشناها والتي تظل محفورة في الذاكرة. كنت أذكر كيف كانت كل معلمة ومعلم يسألوننا عن أحوالنا، يستمعون إلى همومنا الصغيرة وكأنها عوالم كبيرة. كانوا يعرفون كيف يجعلون من لحظات الصف، لحظات تعليمة ولكن محملة بحب. وكانوا يعرفون كيف يزرعون فينا أسس المعرفة التي تمتد أبعد من مجرد معلومات مدرسية. كان المكان نفسه يشع دفئًا، يملؤنا بالأمل الذي يحتاجه الإنسان ليحيا.
أما دعاء المعلمين للأموات منهم، فقد كان دائمًا ما يذكرنا بالإنسانية، بالوفاء، وبأننا لا نعيش في هذا العالم بمفردنا. كان هذا الدعاء لكل من سبقونا، بما تركوه لنا من علم وحكمة، وكان أيضًا دعاءً لكل من يعيش بيننا، بأن يمد الله في أعمارهم، ويمنحهم الصحة وطول العمر. لقد علمونا أن الحياة ليست مجرد تقلبات عابرة، بل هي مسؤولية نتقاسمها، هي شجرة لا يمكن أن تنمو إلا إذا كنا جميعًا نحترم من زرعها قبلاً. كان الدعاء لا يعبر فقط عن الاحترام، بل كان شعورًا يربطنا بالأجيال الماضية ويجعلنا نُقدِّر كل لحظة تعلمنا فيها، كل كلمة تلقيناها.
نهاية حلم، بداية حياة:
وفي النهاية، كانت مدرسة عبد الكريم الخطابي أكثر من مجرد جدران وأماكن، أكثر من مجرد تعليم أو مادة دراسية. كانت مشتلا للقيم، للروح التي لا تهدأ، للذاكرة التي لا تُنسى. كأنما كانت تكتب كل يوم في دفاترنا قصة جديدة عن وطن لا يتوقف عن العطاء، عن تضحية لا تنتهي، وعن حلم لا يتوقف عن النمو فينا، ليأخذنا نحو عالم أفضل. كانت مدرسة عبد الكريم الخطابي هي البذرة التي نمت فينا، ولن تزول أبدًا، لأنها زرعت فينا حب الوطن، حب العلم، وحب الإنسانية التي تبقى باقية. وكما قالت الكاتبة أحلام مستغانمي في إحدى رواياتها: “نحن لا نعيش إلا في الذكريات الجميلة، وفي الناس الذين نحبهم، وفي الأماكن التي تعلمنا فيها أن نحيا.”