الآباء الغائبون عاطفيًا: بين الوجود الجسدي والغياب الروحي

مغربية بريس

بقلم……… شاله الرملي   ألمانيا

في الحياة، يمر الأبناء بمراحل تحتاج إلى رعاية وحنان ودعم مستمر من الآباء. لكن للأسف، نجد في كثير من الأحيان أن هناك آباءً حاضرين جسديًا ولكنهم غائبون عاطفيًا، يعيشون بين أبنائهم دون أن يمنحوهم ذلك الدفء العائلي الذي يحتاجونه بشدة. هؤلاء الآباء قد يكونون على دراية بوجود أبنائهم، ولكنهم يعطون الأولوية لمصالحهم الشخصية، سواء في العمل، أو الحياة الاجتماعية، أو حتى أهواءهم الشخصية، مما يخلق فجوة عاطفية ونفسية كبيرة في حياة أبنائهم.

الأبوة ليست حضورًا جسديًا فقط

الأبوة ليست مجرد وجود جسدي أو توفير الاحتياجات المادية، بل هي مسؤولية شاملة تشمل الدعم العاطفي، والتوجيه، وإظهار الحب والاهتمام. الآباء الذين يفضلون مصالحهم على مصالح أبنائهم ويعجزون عن تقديم الحب والرعاية هم بمثابة “أحياء أموات”، يعيشون دون أن يتركوا أثرًا إيجابيًا في نفوس أبنائهم.

قد يعتقد البعض أن توفير المأكل والملبس والمأوى هو كل ما يحتاجه الأبناء، لكن هذا الفكر قاصر. الأطفال بحاجة إلى شعورهم بالأمان والحنان في أسرهم، بحاجة إلى أحضان آبائهم وابتساماتهم وكلماتهم الطيبة التي تزرع في نفوسهم الثقة والاطمئنان. الغياب العاطفي يمكن أن يكون أكثر قسوة وأذى من الغياب الفعلي، فهو يترك أثراً لا يُمحى في نفس الطفل.

تخيل طفلًا يعود من المدرسة بشوق ليشارك والده يومه، ولكن الأب مشغول دائمًا أو غائب عاطفيًا. هذا النوع من الإهمال يترك الطفل في حالة من الإحباط والشعور بالوحدة. فالطفل يبحث عن لحظة من التقدير أو عناق دافئ، ولكن بدلاً من ذلك يجد نفسه وحيدًا في عائلة لا تمنحه هذا النوع من الأمان العاطفي.

التفرقة بين الأبناء: جرح لا يلتئم

من أسوأ أنواع الإهمال العاطفي هو التفرقة بين الأبناء. عندما يفضل الأب أحد أبنائه على الآخرين، يبدأ هذا الجرح العميق في النفوس. يشعر الطفل المهمل بأنه غير محبوب أو غير مرغوب فيه، ويبدأ في مقارنة نفسه مع إخوته، مما يولد الحسد والغيرة ويزرع البغضاء بين الأشقاء.

القرآن الكريم يحذر من هذا النوع من التمييز، فقد ورد في سورة يوسف قصة النبي يعقوب عليه السلام وكيف تسبب حبه الزائد ليوسف في غيرة إخوته ومحاولة إيذائه، مما يشير إلى العواقب الوخيمة للتفرقة بين الأبناء. التفرقة بين الأبناء قد تزرع الكراهية والانقسام بينهم، وتجعلهم ينشؤون في بيئة عدائية بدلاً من بيئة يسودها الحب والتعاون.

الآثار النفسية للأبناء

الأبناء الذين ينشؤون في ظل آباء غائبين عاطفيًا يواجهون مجموعة من المشكلات النفسية التي قد تلازمهم طوال حياتهم. فقد يشعرون بعدم الأمان العاطفي، ويفقدون الثقة في أنفسهم، ويعانون من القلق أو الاكتئاب. هذا النوع من الأبوة ينتج عنه شخصيات ضعيفة، تخشى التواصل العاطفي وتفتقد القدرة على بناء علاقات صحية في المستقبل.

هؤلاء الأبناء يكبرون وهم يشعرون بأنهم غير محبوبين، وغير جديرين بالاهتمام. وهذا يؤثر على حياتهم المستقبلية بشكل مباشر؛ فعند دخولهم في علاقات اجتماعية أو زوجية، قد يجدون صعوبة في التعبير عن مشاعرهم أو في بناء روابط عميقة مع الآخرين. كما أنهم قد يميلون إلى البحث عن العواطف خارج إطار الأسرة، مما يعرضهم لمشاكل اجتماعية ونفسية.

يقول الله تعالى في سورة النساء: “وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذريةً ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولًا سديدًا”. هذه الآية تدعو الآباء إلى تحمل مسؤولياتهم تجاه أبنائهم، وأن يحرصوا على تربيتهم بطريقة تحميهم من الضعف النفسي والعاطفي.

المسؤولية الأبوية في الإسلام

الإسلام كدين شامل يولي اهتمامًا كبيرًا بالعلاقات الأسرية، حيث يتضمن توجيهات واضحة حول كيفية معاملة الأبناء بالعدل والرحمة. يقول الله تعالى في سورة التحريم: “يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة”. هذه الآية تشير إلى أن دور الأب لا يقتصر على توفير الماديات، بل يشمل أيضًا تقديم الحماية العاطفية والروحية للأبناء.

ويؤكد القرآن الكريم على أهمية العدل بين الأبناء في سورة يوسف وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: “اعدلوا بين أولادكم” ليعلمنا أن التفرقة تؤدي إلى الكراهية والضغينة، بينما العدل يؤدي إلى المحبة والوئام.

من الضروري أن يدرك الآباء أن أفعالهم تؤثر بشكل مباشر على حياة أبنائهم النفسية والروحية. كل لحظة من الإهمال أو التفرقة تترك أثرًا، وكل فعل من العدل والحنان يزرع بذورًا من المحبة والأمان في قلوب الأبناء.

خاتمة

الآباء الذين يغيبون عاطفيًا عن حياة أبنائهم يتركون أثرًا عميقًا ومؤلمًا قد يدوم طويلاً. ليس من الصعب أن يكون الأب موجودًا عاطفيًا، أن يمنح أبناءه الحنان والاهتمام، وأن يعاملهم بالعدل دون تفرقة. في النهاية، الأبناء لا يحتاجون فقط إلى الآباء لتوفير الطعام والمال، بل يحتاجون إلى كلماتهم الدافئة، وعناقهم، ووقتهم الثمين. ففي نهاية المطاف، الذكريات التي ستبقى مع الأبناء ليست مادية، بل هي لحظات الحب والعطف.

الإسلام يدعو الآباء إلى رعاية أبنائهم بالحب والرحمة والعدل، وعدم الانشغال بالمصالح الشخصية على حساب الأبناء. الأبوّة الحقيقية ليست مجرد توفير المتطلبات الأساسية، بل هي علاقة حب وتواصل تجعل الأبناء يشعرون بأنهم محبوبون ومقدرون. فالأبوة الحقيقية هي تلك التي تترك في قلوب الأبناء أثراً من الحب، لا جرحًا من الإهمال.

تعليقات (0)
أضف تعليق