الأمازيغية والهوية الوطنية: نحو سردية تاريخية شاملة*

مغربية بريس

متابعة خاصة……..*فيصل مرجاني*

الأمازيغية ليست مجرد لغة قديمة يتحدث بها الناس، بل هي تجسيد لهوية ثقافية ضاربة في عمق التاريخ المغربي. في الفهم التقليدي، ربما كانت تُختزل الأمازيغية في كونها وسيلة تواصل بين مجموعة من السكان. لكن من منظور أنثروبولوجي وفلسفي، الأمازيغية تُعتبر ثقافة مترسخة، تحمل معها ذاكرة جماعية وتجارب حضارية تشكل جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية المغربية. هذا الامتداد الثقافي يظهر بوضوح في الممارسات اليومية للمغاربة، حيث تُعاش الأمازيغية كلغة وتقاليد وعادات داخل البيوت والمجتمعات المحلية.

التنوع الثقافي في المغرب هو نموذج حي للتعايش والتمازج بين مختلف المكونات الثقافية، حيث يعيش المغاربة، بغض النظر عن مناطقهم وأصولهم، هذا التنوع في حياتهم اليومية. ورغم أن هذا التنوع ظل لفترة طويلة بعيدًا عن الاعتراف الرسمي، إلا أنه كان دائم الحضور في وجدان المغاربة. لم يكن حضور الأمازيغية في المجتمع المغربي يحتاج إلى إثبات، بل كان حقيقة اجتماعية وثقافية عميقة الجذور. إلا أن هذا الحضور لم يجد انعكاسه في السياسات العمومية أو النصوص التشريعية بالشكل الذي يستحقه، إلى أن جاء دستور 2011 ليكسر هذا الإغفال ويُقر بالأمازيغية كلغة رسمية، مما مثّل اعترافًا واضحًا بالدور الحيوي الذي تلعبه هذه الثقافة في تشكيل الهوية الوطنية.

هذا الاعتراف الرسمي بالأمازيغية لم يكن خطوة مفاجئة، بل جاء تتويجًا لوعي متزايد بأهمية المكونات الثقافية في بناء الهوية الوطنية. فالدولة المغربية، من خلال هذا الاعتراف، أظهرت تفهمًا عميقًا لتجذر الأمازيغية في المجتمع باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من النسيج الثقافي واللغوي للمغاربة. لم يكن هذا الإدراك نتاج اللحظة، بل نتيجة تطور طويل الأمد في وعي الدولة والمجتمع بضرورة تضمين جميع المكونات الثقافية في رؤية شاملة للهوية الوطنية.

إن التنوع الثقافي في المغرب، الذي يُعاش كواقع يومي من خلال اللغة والتقاليد والفنون، لم يكن محط الاعتراف الرسمي لعقود طويلة. سرديات ما بعد الاستقلال ركزت على نموذج واحد للهوية الوطنية، مما أدى إلى تهميش جوانب مهمة من التراث الثقافي المغربي. هذه السردية الضيقة عجزت عن استيعاب عمق وتعقيد الهوية المغربية المتعددة الأبعاد، التي تتجاوز الأطر الرسمية لتشمل كل ما هو محلي ومعيشي.

اليوم، ونحن نعيش مرحلة الاعتراف الرسمي بالأمازيغية، نجد أنفسنا أمام فرصة ذهبية لإعادة بناء سرديتنا الوطنية على أسس أكثر شمولية وعدالة. هذا الاعتراف ليس مجرد خطوة سياسية أو قانونية، بل هو تحوّل في النظرة إلى الهوية الوطنية كمنظومة شاملة تحتضن كل المكونات الثقافية واللغوية التي تسهم في ثراء التجربة المغربية. من خلال هذا الاعتراف، تُعزز قيم المواطنة والانتماء، حيث يشعر كل مغربي بأن هويته الثقافية مصانة ومحترمة.

الاعتراف بالأمازيغية كجزء من الهوية الوطنية هو، في جوهره، اعتراف بحقيقة عاشت داخل البيوت المغربية وعبر المجتمعات على مدى قرون. هذا الاعتراف يفتح الباب أمام فهم أعمق وأشمل للتاريخ المغربي الذي لم يكن يومًا أحادي البعد، بل كان دائمًا متنوعًا ومتعدد الأصوات. فالدولة، من خلال هذه الخطوة، أكدت أن الهوية الوطنية ليست نتاجًا لسردية واحدة، بل هي بناء متكامل يتغذى من تعددية ثقافية وعرقية تُثري النسيج الاجتماعي.

إن هذا التحول يُظهر شجاعة الدولة في مواجهة ماضيها وإعادة صياغة هويتها الوطنية بشكل يعكس التنوع الحقيقي الذي يميز المجتمع المغربي. هذا الاعتراف بالأمازيغية لا يعزز فقط من الوحدة الوطنية، بل يُرسخ مفهوم التعددية كقيمة أساسية في بناء الدولة الحديثة. إن حضارتنا المغربية، بتنوعها وثرائها، تشكل جزءًا من الحضارة الإنسانية، ويجب أن نحتفي بهذا التنوع لا كعائق، بل كرافعة للتنمية والتقدم.

تعليقات (0)
أضف تعليق