الإنترنت وثقافة التفاهة

مغربية بريس

كتاب وآراء : أحمد رباص

خارج السياق الذي اشتغل ضمنه ألان دونو، قمت بالبحث في موسوعة غوغل الهائلة عن منشور جاهز عن حضور التفاهة في الإنترنت، فوقع اختياري على مقال حامل للعنوان أعلاه بدون توقيع وبدون تاريخ. وانطلاقا من وازع المبادرة كمناضل يقاوم التفاهة المنتشرة كوباء كاسح لا يفرق جبروته بين دول متقدمة أو متقدمة، استحسنت مشاركته مع قراء وزوار جريدة (الحوار المتمدن) الغراء.
في البداية، يخبرنا كاتب المقال بأن الإنترنت بعدما كان وعدا خياليا، أصبح كابوسنا المعاصر. منومين بشاشاتنا، لم نعد نسعى لتغيير العالم بل الفرار منه. فماذا لو أعدنا الاتصال بالواقع؟
دوار ناتج عن أثر الخمرة. هذا هو الشعور الذي ينتاب الكثير منا اليوم. احتفلنا بوعود عالم جديد. لقد اعتقدنا أن التكنولوجيا بشكل عام والإنترنت بشكل خاص تبشر بأمل جديد. تخيلنا أن التكنولوجيا لها بطبيعتها معنى، وأنه يمكن لها أن تحل محل عهود الأيديولوجيات الساقطة. كانت الإنترنت ذات نبوءة. وعدتنا بتكاثر كسر الخبز مع الإباحية المفرطة.
ثم حدث ما لا يمكن تصوره. كنا نظن أن الشبكات الاجتماعية ستكون بمثابة مصفوفة لذكاء جماعي معولم وبدل ذلك كنا امام ترامب. اعتقدنا أن الشبكة ستشكل مساحة سلمية وإذا بنا نواجه حروبا إلكترونية وأخبارا كاذبة. منينا النفس بأن اليوتوب سيكون فضاء ينتصر فيه الإبداع الخيري فإذا بنا وجها لوجه أمام سورال* ودعاة القاعدة. اعتقدنا أن البيانات والمعطيات ستجعل من الممكن بناء عالم أكثر شفافية فإذا بنا نصادف كامبريدج أناليتيكا**. ظننا أن الإنترنت سيكون مصفوفة لنمو جديد للمعرفة الأكثر استدامة وعوض ذلك أصبحنا أمام انفجار في الاستهلاك السيبراني الذي تجسده يوم الجمعة الأسود والتقادم المخطط له كطريقة لتصميم المنتجات.
ماذا حدث للوصول إلى هذه النتائج الكارثية؟ اعتقدنا أن عالم الإنترنت، مثل الشيوعيين من قبل، يمكننا مسح الماضي من الطاولة، أن الغد بأغانيه سيصل إلى نهاية الاحتمالات الإنسانية والأخلاقية، وأن الإنسان الرقمي الجديد سيكون بالضرورة خيرا ومنفتحا على العالم ويحترم الطبيعة.
لكننا كنا مخطئين وأصبنا بخيبة أمل.
كنا مخطئين في نقطة أساسية: الإنترنت ليست مدينة فاضلة ولكنها أداة. ولفهم هذه الأداة، يجب أن ننغمس في قراءات إيفان إليش.
باعتباره فيلسوفا ورائد علم البيئة السياسية، أوضح إيفان إيليتش أن الأدوات ليست محايدة. لديها غرضها الخاص، والمتمثل في المصفوفة التي تشكل العلاقات الاجتماعية التي يقيمها الناس فيما بينهم. السيارة ، التي كانت في الأصل عبارة عن كائن تقني بسيط يستخدم لنقل الأشخاص، غيرت المناظر الطبيعية وأنماط الحياة المضطربة.
يؤكد إيفان إيليتش، الناقد الراديكالي للمجتمع الصناعي، أنه “عندما يتجاوز نشاط ما بأدوات عتبة، فإنه ينقلب أولاً على غايته، ثم يهدد بتدمير الجسم الاجتماعي بأكمله”.
بالنسبة له، بمجرد أن يتم إضفاء الطابع المؤسسي على الأداة وتفرض نفسها على أنها ما وصفه بـ “الاحتكار الراديكالي”، وهي أداة لا يمكن لأحد الاستغناء عنها ويصبح استخدامها أمرًا زجريا للاستهلاك، فإنها تصبح غير فعالة وتدمر الغرض الذي ينتظر منها أن تخدمه. تهدر السيارة وقتا أطول مما توفره.
فرضت الإنترنت، مثل الشبكات الاجتماعية، نفسها في بضع سنوات باعتبارها احتكارا جذريا كما لم نعرفه إلا نادرا. أصبح من المستحيل تقريبا العيش في وضع عدم الاتصال. لقد سيطر الرقمي على علاقتنا الحميمة، وأصبح الهاتف المحمول طرفا اصطناعيا، وتضخما ضاغطا على نفوسنا.
مثل الرقمي انتصارا بعد وفاة إيفان إيليتش. جسد تمظاهراته بشكل رائع. في غضون سنوات قليلة، أصبحت شبكة الإنترنت كائنا متحورا مختلا. كان من المفترض أن تجمع الناس، فإذا بها تشرذمهم. وبدلاً من جعل الكوكب أكثر ذكاء، طورت ثقافة فرعية من المستوى المتوسط.
الحقيقة قاسية: الغرض من الإنترنت هو النمو فقط، وفرض نفسه على الجميع. لهذا، فإنه يتحور ويفرض البقعة كأفق سالك. ماذا تفعل إيما بوفاري في هذه المغامرة؟ تذكر شخصية فلوبير، غير الراضية دائما، التي تحاول الهروب بأي ثمن من الملل والابتذال والضعف في الحياة القروية. إنها سمة من سمات استخدامنا للإنترنت. على الشبكات الاجتماعية، الواقع ليس سوى تصور. نبني عالما خياليا مصنوعا من صور السيلفي والمارغريتا على الشواطئ المشمسة. يتم احتساب النجاح الاجتماعي في عدد الإعجابات. الرهان ليس ان تكون أو تملك، بل أن تظهر.
يبدو أن الإنسانية الرقمية مدمنة على الحركة. الوقت يتقلص.
“الهروب في الحلم هو عدم الرضا الذي يعاني منه المرء”، هذا هو التعريف الذي قدمه جول دي غوتييه للنزعة البوفارية (bovarysme)
***. لا يوجد أفضل من هذا الوصف للوقت الحاضر.
الرقمي، من خلال تقديم استجابة رقمية لهذا الأمل البوفاري في ترك عالم الملل للتحول إلى الحركة الدائمة، غزا الوقت الدماغي المتاح للبشر.
يمثل التركيز التكنولوجي الذي يقدمه النظام الرقمي اليوم على النزعة البوفارية ثورة في طريقتنا في تجربة العالم.
منذ ولادة الإنسان ، كان الاستياء محرك التقدم. هي التي تسمح لنا بالنهوض. لتجاوز الواقع من خلال الجهد  والإبداع . أن نتجاوز حالتنا البشرية لنصبح مبدعين. الرقم الذي يقدمه لنا البوفاريسم الرقمي اليوم هو عكس ذلك تماما. إنه تهرب من الواقع بدلاً من السعي إلى تغييره. إنه البحث عن الحركة المستمرة، حتى أكثرها عبثا. إنه الخوف حد الذعر من الملل. أنه تفضيل لكتابه سيناريو وجود الإنسان على عيشه. إنه دكتاتورية اللحظة، البحث عن الحداثة. إنه الوهم كلانهاية والعدم كواقع.
باستعمال لغة كانط، هذا المجتمع الوهمي هو جريمة اجتماعية وجودية.
جريمة اجتماعية لأنها تشوه الكلام، وهي أساس كل العلاقات الاجتماعية. نستمع إلى جارنا لأننا نؤمن ضمنيًا بما يقوله لنا. الكلام ليس سوى التزام. افصل الفعل عن الواقع ولم يعد هناك احتمال للإيمان بالآخر. قمت بقطع العلاقة الاجتماعية على الفور. يصبح الآخر عبثا. لم نعد تحب الآخر بل نحب الوهم.
جريمة أنطولوجية لأنها تشوه ما يميزنا عن عالم النبات، أي الوعي. “الرجل الذي لم يعد نفسه يصدق ما يقوله للآخر، يتراجع في ما وراء الشيء”. يذكرنا كانط بأن “الكذب جريمة ضد النفس وضد الإنسانية”.
تلك معاينة جذرية إلى حد ما، لكن الرقمية البوفارية يتسبب في مسخ للوعي، في تحير مقصود. إنه انتصار برنيس على تيتوس. إنه اندفاع مطلق لتصوف السعادة الرومانسية إلى الواجبات المرتبطة بالمنصب أو بالميراث.
لنقوها مباشرة، لكن الرقمية تشكل خطرا مميتا على حضارتنا.
مجتمع لم يعد الرهان فيه هو الانتقال بل الظهور وكأنه يلد الوحوش. إنهم ينتشرون على بلاطوهات تلفزيون الواقع. أصبحت السخافة والتفاهة الفكرية لإيما بوفاري والوسطاء مطلقا وغزت البيت الأبيض. تلك، إذن، أعراض هذا المجتمع ما بعد الحداثي الذي يقدس الابتذال.
الكارثة ليست بعيدة. إنها تزمجر.
ما لم نختار تغيير المسار ستحدث قطيعة جذرية.
لا تُقاس الحياة بتراكم الأشياء بل تُقاس بفن التحكم، أو بالأحرى، في عيش الوقت الذي يمر.
دعونا نتذكر أن الوقت هو أغلى ما لدى الإنسان. يمكننا غزو الفضاء، مراكمة الأشياء، لكن الوقت فريد من نوعه. الدقائق التي قضيتها في قراءة هذا النص ملكك وحدك. لا يمكنك استبدالها. كما أنك لا تعرف كم بقي لك من الوقت للعيش. إنه ينتمي إلى القدر. إنه مقدس.

الوقت هو المعركة المركزية التي يجب أن نخوضها جميعا، على مستوانا. استعد السيطرة. لنعبر عن افكارنا وأفعالنا على المدى الطويل. قضاء الوقت مع أحبائنا بدلاً من الشاشات. لنقبل على التملي في وجه الآخر وليس في صورته الخيالية.
في اليوم الذي سنصبح فيه مرة أخرى بناة وليس مدمرين للوقت، لن تكون الرقمية “احتكارًا جذريا” ولكنها ستصبح مرة أخرى مساحة للتبادلات حيث تزدهر الذكاءات الجماعية والإيجابية مرة أخرى.

* آلان سورال، المولود يوم 2 أكتوبر 1958 في إكس لي بان، هو كاتب مقالات، ممثل، مخرج، إيديولوجي يميني متطرف، مدير أعمال ويوتوبر فرنسي سويسري.
** كامبريدج أناليتيكا (Cambridge Analytica)‏ هي شركة خاصة تعمل على الجمع بين استخراج البيانات وتحليلها ثم الوصول لاستنتاجات أثناء العمليات الانتخابية. تم إنشاء الشركة عام 2013 وهي فرع من الشركة الأم البريطانية مجموعة إس سي إل (Group SCL) المشاركة والحاضرة (بقراراتها) في السياسة الأمريكية.
قدرة الإنسان على أن يتصور نفسه غير ما هو فاصنع لنفسه شخصية وهمية ويحاول أن يؤدي دورا يستمسك به رغم وقائع الحياة الجارية. المصطلح من وضع دي جولتيه (de Goultier) الذي اقتبسه من رواية “مدام بوفاري” للوزير.

تعليقات (0)
أضف تعليق