الاجتهاد الانتقائي.. أزمة فقهية أم هيمنة نوعية؟*

مغربية بريس

كتب وآراء ………..فيصل مرجاني

لا يمكن الحديث عن القوانين المدنية والثيوقراطية دون التطرق إلى أزمة بنيوية عميقة تتجلى في تخبط العقل الفقهي والديني بين قبول قوانين وضعية في مجالات معينة ورفضها في مجالات أخرى، بدعوى حماية “القيم الدينية والأخلاقية”. هذه الازدواجية تطرح إشكالات معرفية وأخلاقية تتجاوز النقاش الفقهي لتطال جوهر العلاقة بين الدين والدولة، وبين النصوص المقدسة والتشريعات الحديثة.

من الأمثلة التي تكشف عن هذه الإشكالية بوضوح، قضية الحدود الشرعية، كعقوبة السرقة والزنا. النصوص الدينية في هذه الحالات واضحة ولا تحتمل التأويل، ومع ذلك، نجد رجال الدين والعلماء يتسامحون مع القوانين المدنية التي استبدلت القطع أو الرجم بعقوبات السجن والغرامات. هذا التسامح يعكس براغماتية فقهية تبررها الضرورات الاجتماعية والسياسية. ولكن المفارقة تظهر بوضوح حين يتعلق الأمر بقضايا المرأة والطفولة والأسرة. هنا، يصبح الاجتهاد والتأويل محظورين، ويُعتبر أي تعديل قانوني في هذه المجالات تهديداً خطيراً “للدين والأخلاق”. كيف يمكن تفسير هذا التناقض؟ ولماذا يُسمح للعقل الفقهي بالمرونة في مجال، بينما يُمارس أقصى درجات الصرامة في مجال آخر؟

لنأخذ مثالا آخر يتطرق إلى موضوع الاجتهاد في مجال الوصية والمساواة في الإرث. في كثير من الحالات، يظهر موقف من العقل الفقهي التقليدي الذي يرفض اجتهادات حديثة تهدف إلى تحقيق العدالة في تقسيم الإرث وفقاً للعدالة بين الجنسين. ففي الوقت الذي تتباين فيه الأحكام الشرعية المتعلقة بالوصية والإرث بين الذكور والإناث، يتم رفض التعديلات القانونية التي تسعى للمساواة بين الجنسين في هذه المجالات. ورغم الدعوات الكثيرة لتطبيق المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في الإرث، فإن الفقهاء يرفضون هذه المبادرات بحجة عدم جواز تغيير النصوص المقدسة التي يُعتقد أنها قطعية وغير قابلة للتعديل.

فيما يخص تحليل الحمض النووي (DNA)، فإن بعض الفقهاء يدعون إلى الاستناد إلى الشهادات والقرائن التقليدية لتحديد النسب، في حين أن الأبحاث العلمية الحديثة توصلت إلى تقنيات أكثر دقة ومصداقية، مثل تحليل الحمض النووي. ورغم قدرة هذه التقنية على تقديم الأدلة الحاسمة حول النسب، إلا أن بعض الآراء الفقهية التقليدية تصر على إغلاق الباب أمام قبول هذا النوع من الدليل العلمي، مما يثير تساؤلات حول الموقف من التجديد الفقهي أمام الأدلة العلمية القاطعة. كيف يُمكن موازنة بين تقاليد دينية ضاربة في التاريخ ومتغيرات علمية تقدم حلولاً أكثر دقة؟

أما في النموذج الواضح مثل قضية عقوبة السارق والزاني، فإن التسامح مع القوانين المدنية التي استبدلت القطع أو الرجم بعقوبات السجن والغرامات يفضح هشاشة الثيوقراطية حين تواجه منظومة مدنية تقدم بدائل أكثر إنسانية وقبولاً في السياقات الحديثة. ولكن لا يتم التجاوب مع نفس المنطق عندما يتعلق الأمر بحماية حقوق المرأة والطفل. فعندما يُطرح تعديل قانوني يهدف إلى حماية المرأة من العنف الزوجي أو تحسين أوضاع الطفولة من خلال رفع سن الزواج، نجد أن نفس العقل الفقهي يرفض الاجتهاد ويعتبره “انتهاكاً للدين”. هذا الموقف يعكس أزمة عميقة في الفكر الديني: لماذا يُسمح بمرونة دينية تجاه بعض الأحكام الشرعية الواضحة، ويُحظر الاجتهاد في مسائل أخرى ليست نصوصها بنفس درجة الوضوح؟

يدافع العلماء عن هذه الازدواجية تحت ذريعة حماية “القيم الدينية والأخلاقية”. لكن أي قيم تلك التي تبرر التسامح مع تعطيل حد السرقة بينما ترفض تغيير قوانين الأحوال الشخصية التي تؤثر مباشرة على كرامة الإنسان؟ هل القيم التي يُزعم الدفاع عنها هي فعلاً قيم إنسانية، أم أن المسألة تتعلق بمصالح اجتماعية وسياسية تحكم العقل الفقهي؟

من الأمثلة الصارخة على هذا التناقض، قضايا كزواج القاصرات. النصوص الدينية لم تحدد بشكل صريح سناً أدنى للزواج، لكن الاجتهاد الفقهي التقليدي أضفى شرعية على هذه الظاهرة، معتبراً أنها تتماشى مع “طبيعة المجتمع الإسلامي”. وعندما يُقترح رفع سن الزواج لحماية حقوق الطفولة، يُواجه المقترح بحملة شعواء تدعي أنه “مساس بالدين”. لكن من أجل حماية الطفل والمرأة، هل لا بد من التمسك بنصوص قديمة، أم أن العصر يقتضي تجديداً فقهيًا يتماشى مع حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين؟

إن هذه الازدواجية ليست فقط أزمة دينية، بل هي أزمة أخلاقية وقانونية تهدد مصداقية الفكر الديني ذاته. إذا كان الاجتهاد ممكناً في قضايا الحدود التي يُعتقد أن نصوصها قطعية، فلماذا يصبح الاجتهاد مستحيلاً في قضايا مجتمعية تهدف إلى حماية الفئات الأكثر ضعفاً، مثل النساء والأطفال؟ هل يمكن أن تستمر المجتمعات في قبول هذا النوع من الانتهاك لقيم العدالة والمساواة، أو هل حان الوقت لتطوير فقه إسلامي يستجيب لتحديات العصر ويساير التغيرات الاجتماعية والقانونية؟

من هنا، يجب طرح السؤال الجوهري: هل تخدم هذه الازدواجية الدين، أم أنها تسعى فقط إلى الحفاظ على الهيمنة الذكورية والاجتماعية التي تتستر بعباءة النصوص المقدسة؟ إذا كان الهدف هو الحفاظ على القيم والأخلاق، فإن هذه القيم يجب أن تكون شاملة وعادلة، لا أن تُوظف بشكل انتقائي يُفرغها من مضمونها الحقيقي. هذه الازدواجية في تطبيق القوانين هي ما يُفرغ المفاهيم الدينية من معانيها العميقة ويحولها إلى أدوات لخدمة مصالح ضيقة وأيديولوجيات قاصرة.

لا يمكن للمجتمعات أن تستمر في العيش في ظل قوانين ثنائية تخلط بين المدني والديني بشكل انتقائي يخدم مصالح فئة دون أخرى. المطلوب هو إعادة النظر في العلاقة بين النصوص المقدسة والتشريعات الحديثة، بعيداً عن الازدواجية والانحياز. فقط من خلال هذا الطرح، يمكننا بناء مجتمع عادل يحترم القيم الدينية دون أن يتحول إلى رهينة لأيديولوجيات تُوظف الدين لخدمة مصالح ضيقة.

تعليقات (0)
أضف تعليق