صلاح الدين فاضل: حين تصبح الرياضة فلسفة للحياة

مغربية بريس سبور

منابعة خاصة…….معروف مطرب

 

عندما تكون تلميذًا في طور التمدرس الإعدادي، تسمع عن رجل يُقال إنه يجمع في شخصه كل الصفات الرياضية والمقومات الأخلاقية والمبادئ القيمية، حينها تشعر بانجذاب غريب نحو هذا الاسم، كأنك أمام أسطورة تُحكى في أروقة المدرسة أو بين أصدقاء الحي. كان ذلك هو واقع الحال معي عندما كنت تلميذًا في السنة الثانية إعدادي بإعدادية المقاطعة الثالثة، التي أصبحت تُعرف اليوم باسم إعدادية الحريري، بمنطقة الساكنية بالقنيطرة. كنت حينها أحلم بأن أكون أحد المتدربين عند المدرب الرياضي صلاح الدين فاضل، ذاك الاسم الذي ترددت أصداؤه في المدينة وخارجها، ليس فقط لبراعته في مجال رياضة الكراطيه، ولكن أيضًا لما كان يتمتع به من أخلاق وقيم ومبادئ نبيلة وسامية. وكما قال الفيلسوف اليوناني أرسطو: “التربية الأخلاقية هي أهم عناصر النجاح”.

لكن القدر لم يكن في صفي، والفقر كان العائق الذي حال بيني وبين تحقيق حلمي. لم يكن بمقدوري تحمل تكاليف الاشتراك في التدريبات، فوجدت نفسي واقفًا عند عتبة الشوق دون أن أتمكن من العبور. وبدلًا من أن أستسلم لهذا الواقع، كنت أهرب إلى عوالم أخرى، حيث كانت دور سينما الأطلس وسينما الاتحاد تعرضان أفلامًا صينية عن أسطورة الكراطيه، البطل العالمي بروس لي. كنت مأخوذًا به، بحركاته السريعة، بمرونته، وبذلك السلاح العجيب الذي يتقنه بمهارة فائقة: السلسلة الحديدية ذات المقبضين الخشبيين. كنت أشاهده وأتخيله، وأحلم بأن أمتلك مهاراته، وأحاول تجسيد شخصيته في مخيلتي، كأنني أعيش داخل تلك الأفلام، أقاتل الخصوم وأنتصر في معارك خيالية كنت أخوضها داخل غرفتي الصغيرة. وكما قال بروس لي نفسه: “لا تخشى الفشل، الفشل ليس نهاية الطريق، بل هو جزء من الرحلة”.

لم يكن لدي خيار سوى التقليد، فأخذت مكنسة منزلنا، قطعت عصاها الخشبية واستعملت منها جزأين خشبيين، ربطتهما بسلسلة حديدية، وبدأت أتمرن في الخفاء. لم أكن أملك سوى خيالي وطموحي، لكن هذا الطموح كان مكلفًا، فقد كنت كثيرًا ما أُصاب بجروح وكدمات على مستوى الوجه أو الرأس عندما أخطئ في تقدير الحركات. لم تكن الإصابات تردعني، كنت أراها ضريبة الشغف، وضريبة الحلم الذي كنت أصر على أن أعيشه ولو في الخفاء. لم يكن هناك من يوجهني، أو يشرف على تدريباتي، لكن الإصرار وحده كان كافيًا لجعلي أواصل التمرين رغم كل الصعوبات.

مرت السنوات، وكبرت، وصرت شابًا يافعًا. شاء القدر أن يأخذني إلى مسار آخر، فالتحقت للعمل كشرطي بسلك الأمن الوطني. لكن رغم مرور الزمن، بقي اسم صلاح الدين فاضل محفورًا في قلبي. كنت أزداد شغفًا بمعرفته كلما مر الوقت، كأنني كنت مدفوعًا بقوة خفية نحو تحقيق حلمي المؤجل. ولم تمضِ سنوات كثيرة حتى شاءت الأقدار أن ألتقي به أخيرًا، ولكن ليس في قاعة لتدريب الكراطيه، بل في قاعة رياضية أنشأها خصيصًا لتدريبات اللياقة البدنية وكمال الأجسام ورفع الأثقال. كان ذلك هو الباب الذي دخلت منه إلى عالمه، وهناك، عاينت بنفسي ما كنت أسمعه عنه عندما كنت تلميذًا صغيرًا. وكما يقول الفيلسوف الصيني كونفوشيوس: “علّم الناس كما لو أنك تعلم نفسك، فالتعليم ليس مجرد نقل للمعرفة بل هو غرس للقيم”.

وجدت رجلاً لا يتكلم إلا بالحكمة، لا يترك خلفه سوى أثره الإيجابي. كان نموذجًا رياضيًا ساميًا، رجلًا لا يُعلم تلاميذه الرياضة فحسب، بل يعلمهم كيف يكونون رجالًا، كيف يتحلون بالأخلاق، وكيف يحملون القيم النبيلة في قلوبهم قبل أن يحملوا الأوزان على أكتافهم. لم يكن مجرد مدرب رياضي، بل كان قدوة، شخصًا يجعل من الرياضة وسيلة لبناء الإنسان قبل بناء الجسد. كان يشجع الجميع دون تمييز، يوجههم بلطف، ويحثهم على الصبر والمثابرة، تمامًا كما كنت أتمنى أن يفعل لي أحدهم عندما كنت طفلًا يحلم بتعلم رياضة الكراطيه. وكما قال الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا: “الرياضة لديها القدرة على تغيير العالم، فهي تلهم، توحد الناس بطريقة لا يفعلها أي شيء آخر”.

مرت سنوات أخرى، وأصبح بيني وبين المدرب والحكم الدولي وؤئيس عصبى الغرب لرياضة الكراطيه صلاح الدين فاضل رابط قوي من الأخوة والاحترام المتبادل. وعندما كنت أعمل سنة 2015 بمقر الدائرة الأمنية السابعة بمنطقة الساكنية، قررت أن أكرم هذه القامات الرياضية التي رفعت اسم المغرب عاليًا في مختلف المحافل الوطنية والدولية. دعوت صلاح الدين فاضل إلى جانب مدربي الأول في رياضة كمال الأجسام ورفع الأثقال عبد الواحد بلحاج، وكذلك المدرب القدير رئيس عصبى الغرب لرياضت الفول كونتات والكيغ بوكسينغ الحاج بوشعيب صيكون، والمدرب والحكم الرياضي الدولي لرياضة التايكواندو سعيد عنيبة، والإطار التقني المدرب لرياضة الآيكيدو فؤاد عسال. كان اللقاء مميزًا، إذ حضره العديد من فعاليات المجتمع المدني، حينها طلبت من الجميع الوقوف احترامًا وإجلالًا لهذه القامات التي قدمت الكثير للوطن والرياضة. وقف الجميع، وصفقوا بحرارة، وكانت تلك اللحظة من أكثر اللحظات التي شعرت فيها بالفخر، وكأنني أكرم ذلك الطفل الصغير الذي كنت عليه يومًا، الطفل الذي لم يتمكن من تحقيق حلمه في وقته، لكنه اليوم قادر على رد الجميل. وكما قال الفيلسوف الألماني ألبرت شفايتزر: “المثال الحي هو أفضل وسيلة للتأثير”.

واليوم، وأنا أسترجع تلك الذكريات، لا يسعني إلا أن أشعر بالامتنان لأن القدر منحني الفرصة لأقترب من هذا الرجل الشهم والأصيل الذي طالما حلمت بأن أكون أحد تلاميذه. صلاح الدين فاضل لم يكن مجرد مدرب رياضي وحكم دولي، بل كان رمزًا للأخلاق والقيم، رجلًا من طينة الأوفياء والمخلصين في زمن قلّ فيه الوفاء وطغت عليه المادة. فالبطولة الحقيقية تكمن في الأخلاق، في المبادئ، في القدرة على التأثير في الآخرين وإلهامهم ليكونوا أفضل نسخة من أنفسهم، وهذا ما فعله صلاح الدين فاضل. وكما قال الفيلسوف اليوناني سقراط: “الرياضة ليست مجرد تدريب للجسد، بل هي تهذيب للروح”.

إنه لمن النادر أن نجد رجالًا مثل هذا الرجل الخلوق، لكنه كان هناك، وكان نموذجًا، وكان قدوة. وأما أنا، فبقيت مدينًا للقدر الذي جعلني أتعرف عليه وأتتلمذ على يديه، ولو بعد حين. ولعلني اليوم، بذكرياتي هذه، أنقل جزءًا من تأثيره للآخرين، علّنا نعيد الاعتبار للرياضة بوصفها مدرسة للقيم قبل أن تكون مجرد ساحة للتنافس.

 

تعليقات (0)
أضف تعليق