*عالم يحتفي بالعلم في مختبراته ويُحرّمه في محاكمه*

مغربية بريس

كتاب وآراء ……..فيصل مرجاني

إن رفض علماء الدين لتحليل الحمض النووي في سياق إصلاح مدونة الأسرة ليس إلا تمظهراً صارخاً لعجز فكري وتاريخي عن مجاراة زخم العقل البشري المتقد، وعن إدراك البعد الأخلاقي الحقيقي للعلم الذي يسعى إلى إقامة العدل وإحقاق الحقوق. كيف يمكن لعقل بشري، مهما ادعى التبحر في العلوم الشرعية، أن يضع حواجز على أدوات علمية لا تخضع للمزاج ولا للشك، أدوات تستند إلى حقائق رياضية صارمة تقطع بوضوح نسب الطفل، فتُنقذ أمه من دوامة الاتهام وتحرر الطفل من لعنة الإنكار التي ستطارده مدى الحياة؟ أليس هذا تحريماً لمقتضيات العقل ذاته وتعدياً على جوهر العدالة؟

إنه لمن العبث أن يقبل هؤلاء بكل أدوات الحداثة التي تلمس حياتهم اليومية، من الهواتف المحمولة إلى الطائرات التي يمتطونها دون تردد، ومن الأدوية التي تنقذ حياتهم إلى العمليات الجراحية الدقيقة التي تزرع لهم قلوباً جديدة وكلى تعيدهم إلى الحياة، ثم ينقلبون فجأة إلى دعاة تحريم حينما يتعلق الأمر بتحليل الحمض النووي. ما هذا التناقض المريع بين الانفتاح الانتقائي على منتجات العقل البشري ورفضه حينما يُوظف في تحقيق العدالة الاجتماعية؟

ما يزيد المشهد إيلاماً هو ذلك التشبث الأعمى بمفاهيم فقهية عتيقة تتجاوزها معطيات العصر، وكأن الزمن قد توقف عند قراءات منغلقة للنصوص، قراءات ترفض أن ترى في العلم سوى تهديد لسلطة المفسر لا شريكاً في تحقيق مقاصد الشريعة. إن رفض تحليل الحمض النووي ليس موقفاً دينياً بريئاً، بل هو تعبير عن نزعة محافظة تحتمي وراء النصوص لعرقلة تطور المجتمع، ولتكريس الجمود الفكري الذي يُنكر على العقل البشري حقه في الإبداع والإصلاح.

كيف يمكن لرجل دين لا يفقه تركيب الأنسولين ولا يدرك الفرق بين فيروس وبكتيريا أن يتجرأ على البت في قضايا علمية دقيقة كتحليل الحمض النووي؟ كيف لعقل يقف عاجزاً أمام أبسط معادلات الكيمياء الحيوية أن يحكم على أداة علمية تمثل ذروة التقدم العلمي الحديث؟ إن المسألة هنا لا تتعلق بتحليل DNA بقدر ما هي صراع بين منطقين: منطق العلم الذي يعتمد على الدليل القاطع، ومنطق التقليد الذي يقدس الجهل ويخشى كل ما يهدد سلطته الرمزية.

إن أخطر ما في هذا المشهد هو استمراء الإنكار، ليس فقط إنكار نسب طفل بريء، بل إنكار لحق العقل البشري في أن يشتبك مع القضايا الأخلاقية والاجتماعية من خلال أدواته الأكثر تقدماً. كيف يمكن أن نتسامح مع ظلم طفل يُحرم من نسبه تحت ذريعة دينية واهية، بينما نُحرّم في ذات الوقت أداة علمية يمكنها أن تنهي هذا الظلم بكبسة زر؟

هذا التناقض الفاضح بين خطاب يُعلن الانتصار لمقاصد الشريعة وبين ممارسات تُكرس الجور والظلم يجعل من المستحيل أن نستمر في الصمت. إن قضية تحليل الحمض النووي ليست سوى رأس جبل الجليد في منظومة أكبر تسعى إلى احتجاز العقل البشري داخل قفص الاجتهادات الفقهية القديمة. إنه صراع وجودي بين العلم الذي يهدف إلى بناء مجتمع أكثر عدلاً، وبين فكر يرفض أن يتحرر من أغلال التقليد ويخشى من مواجهة حتمية التغيير.

إن الحاضر الذي نعيشه يفرض علينا أن نعيد النظر في كل مسلماتنا، وأن نُخضعها لمعيار العلم والمنطق والأخلاق، لا لمزاج فقهاء توقف بهم الزمن. إن رفض تحليل الحمض النووي هو في حقيقته رفض للتقدم البشري، رفض للإنسانية التي تسعى إلى تجاوز المآسي وتحرير البشر من أغلال الجهل والخوف. وإنه لمن العار أن نعيش في عالم يحتفي بالعلم في مختبراته ويُحرّمه في محاكمه.

الحاجة اليوم ليست فقط إلى إصلاح مدونة الأسرة، بل إلى ثورة فكرية شاملة تعيد تعريف العلاقة بين العلم والدين، بين العقل والنص، بين العدالة والتقاليد. فلا يمكن لأمة أن تنهض وهي تُحاكم ذكاءها وتُقيد علمها بأغلال فكر لا يرى في المستقبل إلا تهديداً. إن الإنسانية اليوم بحاجة إلى خطاب يضع الحقائق فوق الأوهام، ويُعلي من قيمة العقل فوق كل اعتبار آخر.

تعليقات (0)
أضف تعليق