عبد الواحد بلحاج: المدرب الرياضي الذي صقل الأجساد وألهم الأرواح

عبد الواحد بلحاج: المدرب الرياضي الذي صقل الأجساد وألهم الأرواح

مغربية بريس 

متابعة خاصة ……… معروف مطرب

القنيطرة ليست مجرد مدينة، إنها كتابٌ مفتوح، وصفحاته مكتوبة بأسماء رجال لم يبحثوا عن المجد، لكنهم صنعوه بأيديهم. ومن بين هذه الأسماء، هناك اسمٌ يهمس به الحديد بين أصابع الرياضيين، اسمٌ يتردد في صالات التدريب، في أنفاسٍ متسارعة، وعرق يتصبب فوق الأوزان الثقيلة. إنه عبد الواحد بلحاج، ذلك الرجل الذي لم يكتفِ ببناء الأجساد، بل بنى النفوس، وصاغ العزائم، وجعل القوة جسدًا، والروح إرادة.

البداية: حين يصبح الحديد وسيلة للخلاص

في ستينيات القنيطرة، حيث كانت المدينة لا تزال تتشكل على إيقاع الحداثة والتغيير، لم يكن بناء الجسم رياضة رائجة كما هو الحال اليوم. كان الشباب ينجرفون مع تيارات الحياة، بعضهم ضائع بين الأزقة، يبحث عن معنى، وبعضهم منهكٌ في صراعاته اليومية، بينما آخرون استسلموا للفراغ. في ذلك الزمن، لم يكن هناك الكثير من الخيارات، لكن كان هناك رجالٌ قرروا أن يصنعوا الفرق.

هناك، بالقرب من محطة القطار الصغرى، بجوار معمل الزيت، وُلدت فكرة، لم تكن مجرد نادٍ رياضي، بل كانت ملاذا، كانت فرصةً لمن أراد أن يختار طريقا مختلفا. كان عبد الواحد بلحاج ورفيق دربه المرحوم محمد كريكبو يقفان هناك كل يوم، ليس كمدربين فقط، بل كحراس على بوابة الأمل، يمنحون الداخلين فرصة لإعادة اكتشاف أنفسهم، ليختاروا الحديد بدلا من الدخان، والتحدي بدلا من الضياع. وكما قال بطل رياضة كمال الأجسام العالمي أرنولد شوارزنيغر ذات يوم: “القوة لا تأتي مما يمكنك القيام به، بل تأتي من التغلب على الأشياء التي كنت تعتقد أنك لا تستطيع فعلها.” وهذا ما كان يُعلمه عبد الواحد بلحاج لشباب المدينة.

عندما تأخذك الحياة إلى طرقٍ أخرى: الرحلة إلى العراق

لكن الحياة ليست مستقيمة أبدا، فهي تمضي كما تشاء، تفتح لنا الأبواب، ثم تغلقها فجأة، وتدفعنا إلى طرقٍ لم نخترها، لكنها قد تكون ضرورية لرحلتنا. في لحظة من الزمن، شاءت الأقدار أن يُغادر عبد الواحد بلحاج القنيطرة، متجها إلى العراق، ليس كمدرب هذه المرة، بل كعامل بعيدا عن الأوزان التي اعتاد حملها، بعيدا عن أصوات الحديد المتداخل، لكنه لم يكن بعيدا عن حلمه.

لقد تعلم في تلك السنوات أن القوة ليست في العضلات وحدها، بل في الصبر، في الاستمرار، في القدرة على مواجهة الحياة عندما تأخذنا إلى أماكن لم نحسب حسابها. وكما قال جلال الدين الرومي: “عندما تسير في طريقك، سيفتح لك الطريق نفسه، حتى وإن بدا أنه غير موجود.” وهكذا، بعد سنوات من العمل في أرض بعيدة، عاد عبد الواحد بلحاج إلى مدينته، ولم يعد ليكون مجرد جزء من الماضي، بل عاد ليصنع المستقبل.

تأسيس الحلم: جمعية التقدم لرياضة بناء الجسم

عندما عاد إلى القنيطرة في بداية الثمانينات، لم يكن الرجل نفسه الذي غادر. لقد عاد بخبرة أعمق، وبإصرار أقوى، وبإيمانٍ أكبر بأن الرياضة ليست مجرد تدريب للجسد، بل هي فلسفة حياة. قرر أن ينشئ ناديه الخاص، جمعية التقدم لرياضة بناء الجسم، لكن الأمر لم يكن سهلا.

في مجتمع مليء بالتحديات اليومية التي كان يعاني منها بعض من المراهقين والشباب، بات وجابا على المدرب الرياضي عبد الواحد بلحاج أن يقنعهم أن هناك طريقا آخر، طريقا يعبر عبر الحديد، لكنه يقود إلى الحرية، إلى القوة، إلى حياة أكثر إشراقا. لم يكن يقف ليعلمهم كيف يرفعون الأوزان فقط، بل كان يُعلمهم كيف يرفعون أنفسهم، كيف ينهضون بعد كل سقوط، كيف يؤمنون بأنفسهم، حتى عندما لا يؤمن بهم أحد. وكما قال البطل العالمي لرياضة الملاكمة محمد علي كلاي: “المستحيل ليس حقيقة، بل هو رأي.” ومن ثم بدأ النادي في جذب الشباب، ليس فقط من أجل بناء أجسادهم، بل من أجل بناء شخصياتهم. بدأ المكان يتحول إلى أكثر من مجرد صالة رياضية، صار مدرسة، صار وطنا صغيرا لأولئك الذين كانوا يبحثون عن مكان ينتمون إليه.

الرجل الذي لم يعرف التقاعد:

 

لم يكن عبد الواحد بلحاج مجرد مدربٍ رياضي، ولم يكن النادي الذي احتضن خطواته الأولى مجرد مكانٍ للعمل. كان بيته الثاني، وكان الملعب امتدادًا لقلبه، يضخ فيه الحياة كما تضخ العروق الدم في الجسد. كان ينظر إلى الرياضة لا كعمل، بل كرسالة، وكما قال الكاتب الأمريكي مارك توين: “العمل الذي نستمتع به ليس عملا، إنه عالما ممزوجا بالشغف”. وهكذا كان عبد الواحد بلحاج، رجلًا يعيش من أجل الرياضة، لا منها.

واليوم، وبعد أن بلغ من العمر عتيًّا، شاء القدر أن يمنحه فسحةً من الراحة، أن يعود إلى منزله، ويخلد إلى السكون بعد سنواتٍ طويلةٍ من الصخب والتدريب والهتافات. لكنه لم يعرف يومًا معنى التقاعد، لأن الشغف لا يشيخ، والروح التي وهبت كل شيء لا تستكين، بل تبقى متقدةً، حتى وإن خذلها الجسد. وكما قال الكاتب البرازيلي باولو كويلو: “الأشياء لا تفقد قيمتها بمرور الوقت، بل تزداد أهمية حين ندرك أثرها العميق في حياتنا.”

الإرث الذي لا يزول:

ليس كل الأبطال يقفون فوق منصات التتويج، وليس كل العظماء تُكتب أسماؤهم في كتب التاريخ. بعضهم يعيش في تفاصيل الحياة اليومية، في جدران نادي رياضي قديم، في كلمات تشجيع تُقال لشاب يبحث عن ذاته، في يد تربّت على كتف رياضي مبتدئ، في نصيحة تغير مسار حياة. عبد الواحد بلحاج لم يكن مجرد مدرب، بل كان أبا رياضيا لأجيال توالت، وكان قدوة لمن ظنوا أن النجاح مجرد أرقام وكؤوس وميداليات، فعرّفهم أن النجاح الحقيقي يكمن في بناء الإنسان قبل بناء البطل.

قد يظن البعض أن الوقت قادرٌ على محو الأثر، لكن كما قال الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: “الأشياء العظيمة تبقى محفورة في الذاكرة، حتى لو حاول الزمن أن يمحوها”. وهكذا سيبقى عبد الواحد بلحاج، ليس في سجلات رسمية، بل في قلوب من تتلمذوا وتدبوا على يديه، في أرواح من ألهمهم، في خطوات من شجعهم على السعي خلف أحلامهم.

واليوم، حين يجلس في منزله، لا يعني ذلك أنه توقف عن العطاء. فالأثر الذي تركه لا يزال يتردد صداه في أرجاء المدينة، في كل نادي رياضي يحمل بصمته، في كل شابٍ حمل شعلة الحلم التي أوقدها فيه. وكما قالت الروائية التركية إليف شافاق: “الإنسان لا يُعرف بما يملكه، بل بما يمنحه”. وعبد الواحد بلحاج منح كل شيء، ولم يطلب شيئا في المقابل.

ففي زمن صار فيه العطاء مشروطا بالمقابل، كان المدرب الرياضي عبد الواحد بلحاج من أولئك الذين يعطون دون حساب. وحين ننظر إليه اليوم، لا نرى جسدا أنهكه العمر، بل روحًا ظلت شامخة، كالشجرة التي تُثمر حتى بعد أن يجف جذعها. وكما قال الشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو: “يسير الإنسان فوق الأرض، لكنه يترك أثرا في السماء.”

واليوم، لا يسعنا إلا أن نقول: “بارك الله في عمرك المدرب الرياضي الخلوق، ومنحك الصحة والعافية وطول العمر، وجعل كل ما قدمته للأجيال نورا لا ينطفئ.”

 

تعليقات (0)
أضف تعليق