مغربية بريس
متابعة خاصة …… معروف مطرب
محمد بناني، فنانٌ تشكيلي استثنائي وُلد في مدينة تطوان عام 1943، أضاء سماء الفن التشكيلي المغربي والعالمي بإبداعه ورؤيته الفريدة التي كانت تلامس أعماق الروح. في الوقت الذي تميز فيه الفنانون بأشكال تقليدية، اختار بناني أن يكون فنانًا يتنقل بين الحدود الضبابية للمادة واللون، فيمزج بين التراب والرمل والحجر لخلق منحوتات لوحات تحمل قوة الحياة وتاريخها. كان بناني فنانًا لا يسعى للتعبير عن الجمال فقط، بل عن المأساة، عن الواقع المخبأ تحت طبقات من الزمان والمكان. ولأنّ “الفن هو الكذب الذي يجعلنا ندرك الحقيقة” كما قال الفنان التشكيلي الإسباني بابلو بيكاسو، فقد تجسدت هذه الحقيقة في أعمال بناني التي لم تكن مجرد لوحات بل كانت صرخات روح.
ولدت بداية الفنان التشكيلي محمد بناني في أواخر السبعينيات من القرن العشرين في معرضه الأول في مدينة طنجة، لتكون هذه بداية لانطلاقته في عالم الفن التشكيلي، الذي امتد عبر المعارض في المغرب والشرق الأوسط وأوروبا. في سنة 1962، غادر إلى باريس على منحة دراسية ليدرس في المعهد العالي للفنون الجميلة، ليحصل على الإجازة في الفنون الجميلة والرسم والنحت. ومع مرور الوقت، بدأ محمد بناني يبني عالما فنيا خاصا به، جمع فيه بين تأثيرات فنية متعددة، وأسلوبا يدمج فيه بين الطابع المحلي المغربي والفن الغربي، محققا بذلك انسجاما فريدا بين العراقة والحداثة.
اختار الفنان التشكيلي محمد بناني أن يبرز من خلال أعماله الروح الحقيقية للأماكن والمواد، مشيرا إلى أن اللون ليس مجرد طيف يختاره الفنان، بل هو انعكاس للمكان نفسه. فكما قال الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: “المكان هو الذي يشكل الإنسان بقدر ما يشكله الإنسان”. كان محمد بناني يرى أن المكان هو عنصرٌ لا يمكن فصله عن العمل الفني. ففي باريس، ألوانه كانت داكنة، رمادية وأسود، بينما في شمال المغرب، كانت الألوان الزرقاء تسيطر، أما في الجنوب فكانت درجات الأحمر والبرتقالي تتداخل مع الطيف المغربي الحار.
لقد تجسدت فلسفة الفنان التشكيلي محمد بناني الفنية في معرضه الشهير “صديقي الخريف” في عام 1992، والذي عكس فيه الفترات الانتقالية في الحياة، ممزوجة بالألوان الداكنة والخافتة التي تعكس واقعا مليئا بالتحولات والآلام. وفي معارضه الأخرى، مثل المعرض المشترك مع ابنه الفنان التشكيلي كريم بناني في رواق البنك الشعبي بالرباط، قدّم رؤية جمالية تشبعت بالحياة اليومية وروح الوطن. كانت أعماله دعوة للتأمل في الحياة، ووسيلة لفهم التعقيد البشري والوجودي.
وفي عام 2008، نال الفنان التشكيلي محمد بناني وساما ملكيا بدرجة ضابط بمناسبة افتتاح المقر الجديد للمكتبة الوطنية في الرباط. هذا التقدير الملكي لم يكن إلا اعترافًا بأثره العميق في تطور الفن التشكيلي في المغرب.
كما قال الشاعر الأمريكي والكاتب ألان غينسبرغ: “الفن لا يقتصر على الإبداع بل على إنقاذ الأرواح”، يمكن القول أن أعمال محمد بناني قد أنقذت الكثير من الأرواح، تلك الأرواح التي تبحث عن معان في عالم مليء بالظلام. كانت لوحاته بمثابة نافذة للعالم الداخلي للإنسان، تقوده نحو معانٍ أعمق لوجوده.
لكن مثل أي فنان مبدع، كان الفنان التشكيلي محمد بناني يواجه تحدياته الخاصة. عُرف عنه التزامه العميق بالعمل والتفاني، وعدم التنازل عن أفكاره الفنية، حتى وإن بدا ذلك صعبا أو معقدا. كان محمد بناني، على الرغم من النجاحات التي حققها، شخصا يتمتع بالتواضع الكبير، متفانيا في فنه، محبا للمكان الذي نشأ فيه.
لقد رحل الفنان التشكيلي محمد بناني عن عالمنا يوم الأربعاء 29 مارس 2023، تاركا وراءه إرثًا فنيا سيظل حيا في ذاكرة كل من عايش أعماله. وقد عبّر عن هذا الفقد الفيلسوف الإيطالي إرنستو ساباتو عندما قال: “الفن لا يموت، بل هو الحياة التي تظل مستمرة”، وهذا ما يميز أعمال محمد بناني التي لن تموت أبدا في قلوب من أحبوها.
رحل الفنان التشكيلي محمد بناني، لكن أعماله ستظل تشهد على قدرته العجيبة في فهم الإنسان والوجود، وكيف يمكن للمادة أن تنبض بالحياة، وكيف يمكن للفن أن يتجاوز حدود الزمان والمكان ليبقى خالدا.